عاصي الرحباني

عاصي الرحباني هو  مؤلف موسيقي و مسرحي و شاعر و قائد موسيقي ومُؤسّس، مع أَخِيه منصُور الرَّحبانِيّ، الظَّاهِرة الفنِّيّة الَّتِي عُرفت باسم (الأَخوين رحبانِيّ), اِستطاع بِعَصا المايسترُو حِين يُمسِّكها أن يَقود الصَّوت والصُّورة في آنٍ معاً، وهو زوج الفنّانة العالمِيّة السَّيِّدة فيرُوز الَّتِي قالت عنه: “ترك مملكة مِن الجمال.. وفَلّ بكّير”. من مواليد قرية أنطلياس- شمال لبنان ( 4 أيار 1923- 21 حزيران 1986).

وكان لِلبيئة الَّتِي نشأَ فِيها دورٌ أساسيٌّ فِي التَّأثِير على نوعِيَّة عطَائِه الفنِّيّ مِن حيث الأفكار والمواضِيع والسِّياقات، حيث كان عاصِي يكبُرُ فِي طُفُولته بيّن البساتِين والمُزارِعِين وما يُمثِّلُونه مِن تناغمٍ إِنسانِيٌّ مع الطَّبِيعة وقِيم العيشِ بِبساطةٍ ورِضى، وبيِّن المدرَسة والكنِيسة وما فِيهُما آنذاك مِن تركِيزٍ لِلقِيم الرُّوحيَّة والثَّقافِيَّة النَّبِيلة.

وأَمضَى عاصِي قِسطاً هاماً مِن طُفُولتِه فِي مَقهى الفوارِ ثُمَّ المنيِبيِع فِي (الجَبل) الَّذِي كان يملِكه والِدُه، سمع فِيه قصص وأَخبار المراجِل والقبضايَاتِ الَّتِي كَانت تدور فِي أَروقته، وحَفِظ عاصِي عن جِدَّته غيتّا الَّتِي عاشت مَعهُم قصصاً وأشعاراً مِن المورُوث اللُّبنانِيّ الشّعبَيّ القدِيمِ. وإِلى منطقة الشوير الَّتِي تنحدِر مِنها أَصُوِّل العائِلة، والَّتِي تعلُو فِي اِرتِفاعها الجُغرافِيّ عَن أنطلياس، حيثُ الزُّهور الَّتِي تبتكِرُ حيِّزها الخاصِ بيِّن الصُّخُور والمُنحدِرات الوعِرة والقَاسِية، تصل بينها الينابِيع وجداوِل المِياه، وتتردَّدُ فِي أَرجائِها أَصداء “الذِّئاب”، كبِر عاصِي وفِي بالِه سحرٌ ودهِشةٌ مِن هذا الزَّخم الجِمالِيَّ العفوِيَّ الَّذِي عاشهُ فِي طُفُولتِه وكان جُزءٍ مِن حيَّاتِه اليومِيَّة، فاِنعكس على فنِّه صوتاً وصُورة، ووطناً عرفهُ عاصِي طِفلاً ويافِعاً، ولم يبتكِرهُ مِن الفراغ أَو الوهم كما يعتقِد كثِيرُون مِمَّن عرفُوا لُبنَان مُمزَّقا بِالحواجِز وخُطُوط التَّماس خِلال سنوات الحرب.

كانت بداياته الفنية وباكورة أعماله ضمن النطاق المحلّي لقريته، أنطلياس، تارة على شكل منشورات أو مجلّة الحرشاية التي كانت تحتوي شعرًا وأخبارًا وقصصًا يكتبها عاصي وحده ثم يوقّعها بمجموعة من الأسماء الوهمية!، وتارة على شكل تمثيليات غير تقليدية وجريئة في مجتمع لا يزال بأطوار الوعي البسيط والناعم،  ومن هذه التمثيليات (عذارى الغدير، عرس في ضوء القمر، تاجر حرب)، بدأت العروض في القرية، ثم لاحقاً في مسرح الوست هول، الجامعة الأمريكية في بيروت، وفي الجونيور كولدج آنذاك (التي أصبحت كليّة بيروت الجامعيّة وثُم الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة اليوم) قُدِّمَتْ مسرحية غابة الضّوء.إلا أنه في المراحل الفنية اللاحقة والتي كانت فيروز جزءً أساسيًا فيها لم يتم تقديم هذه الأعمال ربّما لأنها لم تستوفِ الشروط ومقتضيات النضوج الفني الذي سعى إليه عاصي وحرص عليه تحت اسم الأخوين رحباني.

بدأت التسجيلات مع الفرقة الموسيقية الكاملة التي وفّرها صبري شريف وفق متطلبات التوزيع الموسيقي وليس بحسب المُتاح، وكان حصاد هذه البداية أغانٍ أزلية ردّدتها الأجيال وستردّدها دائمًا مثل : نحنا والقمر جيران، وأعمال أخرى حملت نبض الفلكلور مثل : تحت العريشة. وتوزيع أعمال غنائية لسيّد درويش. ومع تصاعد وتيرة الإبداع الفنّي واتّقاد شعلته، كان لابد لقصة الحب التي بدأت مع هذا الإبداع أن تنتقل معه إلى مرحلة جديدة، فتُوِّجَت هذه القصّة بزواج عاصي وفيروز في 23 كانون الثاني عام 1955، ورُزِقا بزياد وهَلي وليالْ وريما، وقضى العروسان شهر عسلهما الطويل في القاهرة، ولكنّه لم يكن شهر عسل تقليدي، فقد سجّلا خلاله أعمالاً فنية كثيرة هامّة في إذاعة صوت العرب بالقاهرة، وبعضها كان جديدًا مثل : اسكتش راجعون واسكتش غرباء (اسكتشان يحكيان قصة النكبة الفلسطينية)، احكيلي حكاية طويلة، بيتنا في الجزيرة، يا دار بتلوح، اسكتش الرّبع الأخضر…. وقد أُعجِبَ المصريّون بتوزيع لحن “زوروني” للسيّد درويش.

 

في المرحلة التي تلت ذلك، ليس من الخطأ أن نقول أنها كانت البداية الثانية، والأكثر تجدّدًا وبقاءً، وذلك مع بداية إصدارات الإسطوانات من شركتيّ صوت الشرق واللبنانية للتسجيلات، إذ أن الإصدارات السابقة والتي كانت في مطلع الخمسينيّات لم يتجاوز عددها أصابع اليدين. فبدأ إصدار إسطوانات تضمنّت مُختاراتٍ من الأغاني التي لازالت تتردّدُ حتى يومنا هذا ويُعاد بثّها وطلبها وكأنّها من الأعمال الحديثة، مثل : البنت الشلبية ويا مايلة ع الغصون، والفلكلورية مثل : يا غزيّل ويا حنيّنة، التي عُزِفَت معها إيقاعات من أمريكا الجنوبية مثل (البوليرو والبايون والمامبو). توازيها مؤلفات آسرة مثل : نسيتنا الكروم، مغرور، سمعنا… وروائع أخرى مثل : أغاني أيلول، الطريق الليلكي.

 

لم تتوقّف الأعمال الغنائية، الإذاعية أو التلفزيونية، أي التي لم يتم تقديمها على المسرح و/أو لم تتم طباعتها على إسطوانات بالرغم من أنها كُتِبَتْ في فترات عزّ العطاء والإنتاج، ومنها : ورد وشبابيك، جسر العودة، والقصة الكبيرة.

في أوائل الثمانينيّات أُدخِل عاصي إلى المستشفى لمرّاتٍ عديدة كانت آخرها في العام 1986، حيث دخل في حالة غيبوبة دامت ستّة شهور. تحدّث عاصي في أيامه الأخيرة عن الماورائيات، وخاطب كيانًا أسماه “الكبير” ، وقال له : افتحلي افتحلي، قتلني الصّفير، والبحر مالو صوت، دخيلك افتحلي..الكتابة الشعرية عذاب، التأليف الموسيقي عذاب، الحياة عذاب، الموت هو تاج الحياة”.

رحل عاصي الرحباني يوم السبت 21 حزيران 1986، في يوم عيد الموسيقى، وفي أول أيام الصيف، وفي عيد الأب ورقد في مثواه الأخير في لبنان، لبنان الذي عرفه “أخضر حلو عَ تلال”، وعشقه حتى صار “حكاية القلب وحنين البال”، ولأجل ذلك، بقي طيلة عمره يُقيم في لبنانه رغم سنوات الحرب الأهلية، لم يغادر ولم يهاجر، وعند سؤاله عن سبب بقائه في لبنان أجاب : “كتبتُ عن التعلّق بالأرض والتشبّث بها كيف سأذهب! جوّات نفسي عندي شعور إنّي بكون محمي أكتر لو بقيت بوطني وبضيعتي إنطلياس”.

في نفس التاريخ من كلّ عام تمتلئ الصفحات المطبوعة والإلكترونية بالمقالات والقصص والرسائل التي تستذكر عاصي، ويحتفل جمهور السيّدة فيروز سنويًا في “يوم عاصي”، ويستذكرونه بمقولته : “وأعرف أنّي باقٍ ككوكب بعيد يلمع في الصّبح .. كدخانٍ يصعد .. يصعد”

اقرأ ايضاً
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.